معهد الشرق الأوسط – د. الصادق الحمامي تتناول الدراسة إشكالية تأثيرات أزمة جائحة كورونا على صناعة الصحافة والميديا من منظور سياقات متعددة، عربية وأوروبية وأميركية، في الوقت ذاته. كما تهدف إلى استكشاف هذه التأثيرات على المدى القريب والمدى البعيد ومعالجتها، نظريًّا، في سياقاتها المتعددة الصناعية والصحفية المهنية وحتى الثقافية. وتكتسي معالجة تأثيرات أزمة جائحة كورونا من منظور ثنائية المدى القريب والمدى البعيد أهمية بالغة ليس فقط لأنها جلية في النقاش المهني والبحثي في السياقات الأوروبية والأميركية، بل لأن هذه المقاربة (أي النظر إلى انعكاسات الأزمة وتأثيراتها الفورية والبعيدة) تُمثِّل فرصة سانحة لاستئناف النقاش بمعطيات جديدة في الإشكاليات الكبرى التي تعيشها الصحافة والميديا، بل إن إشكالية تأثيرات الجائحة لم تكن في واقع الأمر سوى فرصة للاستمرار (أو لاستئناف) النقاش ذاته حول مستقبل الصحافة والميديا الذي لن يتوقف أبدًا.
ويُفصِّل الأكاديمي الصادق الحمامي، أستاذ مشارك في معهد الصحافة وعلوم الإخبار بجامعة منوبة، مسألة تأثيرات جائحة كورونا على مهنة الصحافة وصناعة الميديا إلى مشكلات فرعية متعددة على غرار تأثيرات الأزمة على اقتصاد الميديا وعلى سوق الإعلان (أولًا)، ومستقبل الصحافة المطبوعة (ثانيًا)، والإجراءات المتعددة التي اتخذتها الحكومات لدعم الصحافة بشكل خاص وصناعة الميديا بشكل عام (ثالثًا)، وعلى ممارسات استهلاك الميديا والاعتماد على الأخبار والثقة فيها في سياق الأزمات (رابعًا)، واستراتيجيات الابتكار والتجديد التي وضعتها صناعة الميديا في المجالات التحريرية (المضامين والتغطية) والتجارية (تسويق المنتجات) أو التكنولوجية والانخراط في الخيار الرقمي ووضع طرق مبتكرة للعمل عن بُعد) (خامسًا).
وقد استند الباحث في مقاربته لأبعاد المشكلات المطروحة على منهج التحليل الوثائقي وأداة المقابلة لجمع المعطيات الضرورية للتحليل في إطار هذه الدراسة الاستطلاعية. ويُعَدُّ التحليل الوثائقي من المناهج الأساسية في العلوم الاجتماعية بجانب المنهج المسحي، وهو يسمح بالحصول على معطيات كمِّية وكيفية. ويشمل التحليل الوثائقي المبررات الرسمية والإحصائيات والأرشيف؛ وهي جزء من الأدبيات التي استعان بها الباحث، وتقدم معلومات عن السياق. ويكون لبعض المعلومات التي تُسمَّى بـ”التحليل الثانوي” للمعطيات دور في تحليل جديد لمعطيات كيفية وكمية متوفرة في دراسات أخرى في إطار مقاربات جديدة، وهذا ما يفسر تعدد وتنوع الوثائق الني استخدمتها الدراسة.
خطاب تفكُّري حول الصحافة ومعاييرها والحوار مع الجمهور
لعل من التأثيرات الأولى والبادية للعيان لجائحة كورونا على مهنة الصحافة على وجه التحديد ما يُسمِّيه الدكتور الصادق الحمامي تعزيز “التفكُّرية الصحفية” والخطاب الصحفي على الصحافة، والذي يتصل بقدرة الصحفيين على الحديث عن مهنتهم خارج غرف الأخبار مع نظرائهم في الفضاءات المهنية أو أمام الجمهور في المجال العمومي. ويُترجِم هذا الخطاب التفكُّري انفتاح غرف الأخبار على الجمهور، ويتجسد في مضامين متعددة ومتنوعة تعالج مقتضيات المقاربات التحريرية في سياق أزمة كورونا على غرار الحديث عن واجب الإخبار، والابتعاد عن الأسلوب الكارثي الدراماتيكي دون أن يؤدي ذلك إلى حجب الوقائع والرقابة الذاتية.
وفي هذا الإطار، قامت بعض الهيئات التحريرية بتفسير المقاربة التحريرية وخيارات الجريدة كالمعايير التي تعتمدها هيئة التحرير لترتيب الأخبار ومعالجة الأحداث الآنية والصعوبات التي يواجهها الصحفيون لإنجاز تقاريرهم في سياقات استثنائية. ويُعَدُّ موقع “نيويورك تايمز” نموذجًا جيدًا لهذا الانفتاح على الجمهور عبر صفحته (Times Insider)؛ إذ قدَّم تقارير عن كواليس الإنتاج الصحفي، وكيف أن غرف الأخبار أعادت تنظيم نفسها من جديد عبر إعادة توزيع الصحفيين (إلحاق صحفيي قسم الثقافة مثلًا بقسم الأخبار العالمية) وإعادة رسم الحدود بين الأقسام التحريرية.
وقد كانت أزمة كورونا أيضًا فرصة للصحفيين للنقاش في معايير التغطية المسؤولة، خاصة في سياق يتسم بالخوف من الفيروس وبانتشار الأخبار الكاذبة. وظل بعض الصحفيين يوصي باجتناب الصفات كأن نقول مثلًا: “الفيروس القاتل”، لأن ذلك يمكن أن يسهم في تعزيز الشعور بالخوف والهلع، مع مراعاة الالتزام بالوقائع الباردة والموضوعية.
وكشفت أزمة كورونا محدودية هذا الخطاب التفكُّري في السياقات المهنية العربية، ويعود ذلك إلى أسباب عديدة منها غياب الحريات الصحفية في عديد من الدول العربية التي تقلِّص من فرص النقاش في الصحافة وفي أدوارها وقيمتها التحريرية. ويُضْعِف غياب الحريات الصحفية ومحدوديتها من انفتاح غرف الأخبار على الجمهور ومشاغله والتفاعل والحوار معه؛ فالصحافة في العالم العربي وبسبب السياقات السلطوية التي تعمل فيها منذ عقود لم تطوِّر نموذجًا تفاعليًّا مع الجمهور.
المنتجات التحريرية الجديدة التي طورتها الميديا لمواكبة أزمة كورونا
لقد أدت جائحة كورونا إلى طفرة إخبارية لا مثيل لها في الصحافة حتى أنها وُسِمَت بـطفرة فيروس كورونا. وكان السياق الاستثنائي لجائحة كورونا فرصة لمؤسسات الميديا لتطوير منتجات صحفية جديدة على غرار الخرائط التفاعلية والتقارير التفسيرية وصحافة البيانات أو لدعم منتجات بعينها كالنشرات الإخبارية التي كان لها استخدام واسع ومنتشر على غرار صحيفة “واشنطن بوست” التي أنتجت نشرة إخبارية خاصة بالوباء. وإضافة إلى النشرات، طوَّر العديد من المؤسسات خدمة البودكاست، فعلى تليفزيون “سي إن إن” أُطْلِق بودكاست يومي ومجاني (Coronavirus: Fact vs Fiction) يشرف عليه طبيب أميركي ومقدم برامج، كما طوَّرت بعض مؤسسات الميديا المحلية: بودكاست على غرار صحيفة (Ouest France) التي أحدثت بودكاست (Comme à la maison).
ولا شك أن التفسيرات تمثِّل أكثر الأجناس الصحفية التي استخدمتها الصحافة. ومن الأدوات التفسيرية التي يمكن أن تكون مثالًا حيًّا الدليل الذي أصدرته صحيفة “الباييس”، ويتضمن كل ما يجب أن يعرفه القارئ عن الجائحة مع قسم خاص بأسئلة القرَّاء. بل إن موقع “الغارديان” أنشأ قسمًا خاصًّا بالتفسيريات المرتبطة بالجائحة يتضمن تقارير تفسيرية وتقارير بيانات وخرائط تفاعلية وفيديوهات تحرٍّ. وهي على نحو ما مثال جيد لما يمكن أن تقوم به الصحافة في وقت الأزمات من تفسير وإنارة وإعطاء الخلفية المعرفية الضرورية للقارئ حتى يفهم بنفسه الأحداث كقارئ راشد. ولم تكتف المواقع الصحفية التقليدية بالتفسيريات التي نجدها أيضًا حتى في وكالات الأنباء على غرار رويترز مثلًا.
واعتمد بعض القنوات التليفزيونية العربية مقاربات جديدة في إعداد البرامج وبثها على غرار برنامج “مع الحكيم”، في قناة الجزيرة مباشر، الذي أصبح يُبَث من المنزل، ونشرة الأخبار بقناة الجزيرة والتي يقدمها زين العابدين توفيق من المنزل أيضًا. كما تعاظم استخدام طريقة الاستضافة عن بُعد عبر السكايب في الإذاعات والقنوات التليفزيونية على غرار التليفزيون الكويتي أو عدد من القنوات المصرية.
أما الميديا في العالم العربي، فقد كانت مقارباتها محدودة جدًّا في مستوى تطوير منتجات تحريرية خاصة بالأزمة لأسباب عديدة منها على وجه الخصوص اختلاف مستوى صرامة الحجر الصحي بين الدول الأوروبية والدول العربية، إضافة إلى محدودية الابتكار في الميديا في العالم العربي بما في ذلك الصحافة الرقمية التي تعتمد في أغلب الأحيان على المضامين النصية. وفي هذا الإطار، فإن استخدامات أساليب الصحافة التفسيرية وصحافة التحري وصحافة البيانات وتقنية البودكاست لا تزال محدودة جدًّا في “الصحافات” العربية. كما أن التزام مؤسسات الميديا وغرف الأخبار في كثير من الدول العربية بالسياسات التحريرية التي تضعها الحكومات عبر إرشادات وتعليمات وزارات الإعلام يمثِّل عائقًا أمام الابتكار التحريري.
نحو مقاربات جديدة لتنظيم العمل الصحفي وغرف الأخبار
يُعدُّ العمل عن بُعد من أهم المبتكرات التي أفرزتها جائحة كورونا. وهنا، يسرد الباحث بعض الأمثلة؛ ففي فرنسا تخلَّى مذيع نشرة أخبار الواحدة بعد الظهر، في القناة الأولى الفرنسية (TF1)، عن التقديم واكتفى ببعض المداخلات من منزله رغم أنه يقدم نشرة الأخبار منذ عام 1988، مما جعل هذه النشرة أكثر البرامج شعبية في المشهد التليفزيوني الفرنسي. وثمة اتجاه لدى المهنيين يقر بأن أزمة كورونا ستؤدي إلى تأثيرات حاسمة بشأن تنظيم العمل الصحفي في غرف الأخبار وتطوير ما يُسمَّى غرف الأخبار الموزعة على غرار الحوسبة الموزعة. وتمثِّل غرف الأخبار الموزعة مبتكرًا حاسمًا بما أنها تجاوُز لغرف الأخبار المادية التي يجتمع فيها الصحفيون؛ حيث تقوم على تدفق العمل وأساليب العمل الموزعة وثقافة تنظيمية جديدة شبكية إضافة إلى التدريب الموزع.
ويُعدِّد تون تيروينار (Tom Trewinnard)، مؤسس مَخْبَر متخصص في الصحافة والميديا ومطوِّر بارز في تكنولوجيا “غرف الأخبار الموزعة”، مزايا هذه الغرف كالاقتصاد في تكاليف إدارة غرف الأخبار (إدارة المباني وكل ما هو مرتبط بها خاصة بالنسبة إلى غرف الأخبار في الميديا الفتية)، وإمكانية توظيف صحفيين شبان يمكنهم العمل دون التنقل إلى السكن في العاصمة؛ حيث تكاليف المعيشة باهظة ما يعني أيضًا فتح غرفة الأخبار على منتجات صحفية جديدة بل وتجديد الصحافة. ويمكن لـ”غرف الأخبار الموزعة” أن تسهم أيضًا في تطوير أشكال جديدة من التفاعل مع الجمهور وجمع الأخبار من الميديا الاجتماعية ووضع آليات جديدة لجمع المعلومات والتحرِّي فيها والبحث عن المصادر.
تأثيرات أزمة كورونا على المدى القريب والبعيد
إن الموضوع الرئيس الذي يشغل المهنيين هو تمويل الميديا وتراجع الإيرادات الإعلانية، لكن كل القطاعات لا تتأثر بتراجع الإيرادات الإعلانية بالطريقة ذاتها. وتشير تقارير مكاتب متخصصة في الإعلان إلى أن مداخيل القنوات التليفزيونية الأميركية الكبرى (National TV) ستنخفض بنسبة 13% حسب تقرير أصدره مكتب الدراسات (Magna)، وفي 2021، تتوقع الدراسات ارتفاعًا بنسبة 0.8% للمؤسسات التليفزيونية، وانخفاضًا كبيرًا في مستوى إيرادات القنوات المحلية، ولكن في المقابل فإن الإعلان السياسي (المقدر بـ5 مليارات دولار) يمكن أن يعوِّض جزئيًّا هذه الخسائر. ويبدو جليًّا أن التأثيرات الأكثر حدَّة ستشمل الميديا غير الربحية حتى إن بعض التوقعات المستقبلية تتحدث عن اندثار البعض منها.
وفي السياق الأميركي على وجه الخصوص، يلاحظ الباحث اهتمام عدد كبير من التقارير بأزمة الميديا المحلية، خاصة أن جزءًا منها يتمثَّل في صحافة مجانية وبسبب مدخرات نقدية محدودة. وفي تقرير عن تأثيرات الأزمة صادر عن معهد بوينتر (Poynter)، فإن تراجع الإيرادات الإعلانية أدى إلى تأثيرات خطرة، خاصة على المجلات الأسبوعية التي تمثِّل صحافة بديلة عن الصحافة السائدة الإخبارية مما سيدفع بجزء من المجلات الإخبارية للتوقف عن الصدور. وترى بعض التحليلات أيضًا أن الأزمة ستقتل لا محالة الصحافة المكتوبة المحلية التي كانت تعتمد على قطاعات مثل توزيع السيارات والتجارة بالتفصيل والسينما.
وتشمل التأثيرات السلبية أيضًا المجموعات الاقتصادية الكبرى في مجال الميديا على غرار “غانيت” (Gannett) التي تملك 200 يومية أميركية، والتي أعلنت عن إجراءات تقنية كبيرة (عُطَل غير مدفوعة الأجر، وتخفيضات في الأجور تصل إلى 25% أو مضاعفة العمل بالنسبة للبعض الصحفيين)، كما أن بعض الصحف سرَّحت 9% من موظفيها (في مجال الرياضة مثل “ذا مافن” The Maven). لكن هناك أيضًا العديد من الصحف التي لم تتوقف عن النشر بل قلَّصت عدد أيام الصدور إلى يومين على غرار (Tampa Bay Times) لخفض تكاليف الطباعة وتخصيص أيام بعينها للصدور من أجل استقطاب الإشهار.
ويرى الدكتور الحمامي أن المقاربة الأسلم للتفكير في أزمة كورونا وانعكاساتها على صناعة الميديا، في مختلف السياقات سواء أكانت أوروبية أو أميركية أو عربية، وإِنْ اختلفت مظاهر هذه الأزمة، تتمثَّل في النظر إليها باعتبارها كاشفة لأزمات سابقة ولإشكاليات قديمة تعلمت منها صناعة الميديا بشكل عام؛ فالأزمة لا تأتي والصحافة والميديا في صحة جيدة. ويدعو إلى النظر في هذه الإشكاليات باعتبارها أزمات عميقة وهيكلية ذات بُعد نسقي، أي إنها شاملة تهم كامل النظام أو النسق. ويتمثل هذا البعد النسقي للأزمة في عدة مستويات، منها: انهيار بيئة الأخبار الذي هو ذو طابع نسقي أيضًا الذي يتجسد في انتشار الأخبار الكاذبة بسبب الميديا الاجتماعية التي تسهم في توسيع قدرات الناس على إشاعة الأكاذيب وعلى الدعاية وفي انتشار “الصحاري الإخبارية” وفي انهيار المؤسسات التي كانت لها مسؤولية نشر الأخبار واستحواذ المنصات الاجتماعية على مسالك توزيع المعلومات وعلى الإعلان الرقمي (70% في 2018)، كما يدافع عن ذلك بعض الصحفيين الذين يرون أن هذا الانهيار الشامل لبيئة الأخبار يشبه إلى حدٍّ ما الانهيار الإيكولوجي البيئي الذي تعرفه الإنسانية.
حلول لمواجهة تأثيرات الأزمة قريبة المدى وبعيدة المدى
تتعدد سيناريوهات مجابهة الأزمة وتتوزع بين فاعلين متعددين: المهنيين أنفسهم، والخبراء، ومنصات الميديا الاجتماعية، والحكومات. ثمة اتجاه سائد يرى أن قطاعات من صناعة الميديا لن تستعيد عافيتها. فعلى المدى القريب، سيفضِّل المستخدمون -حسب بعض السيناريوهات المعروضة- الاشتراك في خدمات الترفيه مثل منصة “نتفليكس” على حساب الاشتراك في خدمات الأخبار. كما أن عودة النمو الاقتصادي لا يعني بالضرورة عودة نماء قطاع الصحافة؛ إذ من الصعب أن يعود الناس إلى الصحافة الورقية عندما ينتقلون إلى الرقمي.
كما تعود إلى السطح مقترحات سابقة للأزمة، لكنها تبقى صالحة لمواجهة تأثيراتها، لأن جائحة كورونا لا تأتي بمشاكل جديدة بقدر ما تضاعف من قوة المشاكل السابقة لها. وفي هذا الإطار، يعاد طرح مقترحات تبدو مبتكرة كأن تكون للمؤسسات الاقتصادية سياسة تقوم على تخصيص جزء من إعلاناتها إلى الصحافة الجيدة أو تحويل المؤسسات الصحفية إلى مؤسسات غير ربحية على غرار “برو بابليكا” ومؤسسة “تكساس تربيون” وهي مؤسسة صحفية غير ربحية أو صحيفة “لا براس” الكندية.
ومن الحلول المقترحة الأخرى التي يدافع عنها بعض الصحفيين: التمويل بواسطة القرَّاء رغم التأثيرات الوخيمة التي يمكن أن تنجم عن هذا الخيار، لأن ذلك يؤدي إلى إقصاء قطاعات من الجمهور الذي لا يمكنه الاشتراك في هذه المواقع بما أن المضمون بمقابل هو مخصص إذن للنخبة أو هو صحافة فكرية ونخبوية على نحو ما.
ويرى آخرون أن نموذج التمويل بالإشهار غير قابل للإصلاح، ويدعون إلى حلول بديلة على غرار برامج لدعم القرَّاء للمؤسسات مثل البرنامج الذي وضعته صحيفة “الغارديان” والتمويل العمومي للصحافة. ويعتقدون أن الميديا العمومية هي آخر أمل لإنقاذ الصحافة الأميركية، لأن غرف الأخبار يجب أن تكون مِلكًا للصحفيين والجماعات المحلية وأن تكون أيضًا مرآة لهذه الجماعات التي تخدمها والحل في مؤسسات صحفية غير ربحية.
وأمام الانعكاسات السلبية التي عانت منها مؤسسات الصحافة الورقية والإلكترونية، وخاصة منها المحلية، سعت الحكومات إلى وضع برامج دعم لهذه المؤسسات؛ إذ قررت الحكومة الدنماركية دعم صناعة الميديا بـ25 مليون يورو. أما الحكومة الفرنسية فتبحث وضع برنامج لمساعدة الصحافة وقطاع الميديا ويشمل التعجيل بصرف المساعدات للمؤسسات مع اهتمام خاص بالمؤسسات التي يمكن أن تتعرض إلى الإفلاس ووضع برنامج لمساعدة المؤسسات السمعية البصرية عبر تأخير دفع الضرائب إضافة إلى الترخيص لمحلات بيع الصحف.
وتمثِّل أزمة كورونا فرصة في الولايات المتحدة للمدافعين عن الدعم العمومي للصحافة؛ إذ وجهت في هذا الإطار المنظمات المدنية العاملة في مجال الصحافة بيانًا إلى قيادات مجلس النواب ومجلس الشيوخ لدعم الصحافة المحلية واعتبارها خدمة أساسية للمواطنين ورخائهم وتعافي الأمة. وتطالب تلك المنظمات الكونغرس بإدماج الصحافة في برنامج إنعاش القطاعات الاقتصادية، وتقديم دعم يقارب 5 مليارات دولار لفائدة الصحافة- الميديا العمومية والميديا الجمعياتية، وتوفير صندوق دعم عاجل لدعم غرف الأخبار للمحافظة على مواطن الشغل.
تأثيرات الأزمة على مهنة الصحافة وصناعة الميديا في العالم العربي
تحيل الشهادات التي حصل عليها الباحث حول الممارسة الصحفية في السياق الجديد الذي فرضته جائحة كورونا إلى انعكاسات متعددة ومتنوعة منها ما يشمل المادة الإخبارية بتخصيص “جزء أكبر من مساحة الوقت للإخبار”؛ ما يعني زيادة وتيرة العمل الملقى على عاتق قسم الأخبار فيها. كما أن بعض المؤسسات “اغتنمت فرصة الحجر الصحي من أجل إعادة الهيكلة” أو “التفكير بجدية في راديو المستقبل بحيث يصبح لا معنى للمقر والأستوديو وقاعة التحرير بحيث يمكن تطوير وسائط إلكترونية تحل محلها”.
لكن يلاحظ الدكتور الحمامي أن العمل عن بُعد ليس دائمًا حلًّا سحريًّا لمصاعب العمل أثناء أزمة كورونا؛ ففي اليمن تشير بعض الشهادات إلى صعوبة “التواصل مع بقية الفريق من أجل العمل داخل البيت بسبب ضعف الإنترنت”. ولعل التأثير الأكثر خطورة يتمثَّل في تسريح الصحفيين وإيقاف مرتباتهم كما وقع في تونس؛ حيث تشير تقديرات النقابة الوطنية للصحفيين التونسيين إلى تسريح 190 صحفيًّا أثناء هذه الأزمة في حين توقفت أهم مؤسسة صحفية خاصة عن دفع رواتب الصحفيين في شهر مايو/أيار 2020.
وتفيد شهادات المهنيين أن جائحة كورونا سيكون لها تأثير عظيم على تراجع الإيرادات الإعلانية لكل المؤسسات، وأيضًا على حركة إنتاج المضامين و”تسريح الموظفين والتأخير في سداد الأجور وتراجع في مستوى الأداء”، وقد تنجو من هذه الأزمة المؤسسات غير الربحية التي تحصل على دعم من المنظمات الدولية.
وتبدو الصحافة الورقية في كل الشهادات القطاع الذي سيتأثر أكثر بالأزمة تليها الإذاعة والقنوات التليفزيونية الخاصة لنقص الإشهار وغياب الدعم الحكومي. كما سيتعزَّز الاتجاه نحو الصحافة الإلكترونية التي أصبحت “الوجهة الأولى للجميع من جمهور ومعلنين”؛ فـ”الصحافة المطبوعة ستندثر في تونس” بسبب قلَّة وتراجع الموارد الإشهارية دون تطوير مصادر دخل بديلة، والتي “باتت تشكِّل خطرًا حقيقيًّا على استمرارية وديمومة بقاء هذه الوسائل الإعلامية”، خاصة الصحافة الورقية التي باتت مهددة بالزوال أصلًا وقطاعها متهالك.
وتفيد الشهادات المتوافرة في الصحافة إلى أن تراجع الإعلانات كان سلبيًّا جدًّا على اقتصاد الصحافة الورقية؛ ففي مصر مثلًا يُقدَّر هذا الانخفاض بـ75% إضافة إلى التأثير السلبي على التوزيع الذي يقول بعض المهنيين إنه تراجع بـ300 ألف نسخة، بسبب الاعتقاد بأن الجرائد تنقل العدوى.
أما في بعض البلدان العربية الأخرى، فقد تم إيقاف توزيع الصحف الورقية تمامًا على غرار تونس واستبدال نسخ رقمية في شكل ملفات “بي دي إف” (PDF) أحيانًا بها. وفي بعض الدول الأخرى تم اقتراح إحداث منصة رقمية لتجميع مواد الصحافة وبثها بشتى الوسائل المختلفة مع إيقاف المحتوى المجاني على الإنترنت أو في الميديا الاجتماعية.
وقد التجأت مؤسسات الصحف الورقية لطرق بديلة على غرار النشر الصحفي في ملفات “بي دي إف” أو نشر المادة كاملة على الموقع نظرًا لغياب استراتيجية المضمون بمقابل مما حرم المؤسسات الصحفية من أسلحة بمواجهة أزمة التوزيع وتراجع الإيرادات الإعلانية على عكس المؤسسات الصحفية الأوروبية والأميركية التي استغلت هذه الأزمة لتطوير استراتيجيات متعددة لتطوير الاشتراكات واستقطاب جمهور جديد لمضامينها الرقمية المدفوعة.
دروس مستخلصة عن تأثيرات جائحة كورونا في العالم والمجال العربي
من الخلاصات التي تثير الانتباه أن أزمة كورونا تضع المهتمين بصناعة الصحافة والميديا أمام مفارقة كبيرة تتمثَّل في أن إقبال الناس على الأخبار، سواء أكانت المادة الإخبارية المتصلة بالأحداث أو بالبرامج الحوارية في أشكالها المختلفة، والذي تؤكده المعطيات الإحصائية التي تنشرها مكاتب قياس الجمهور في أوروبا وأميركا، إِضافة إلى الشهادات التي يقدِّمها الصحفيون ومؤسسات الميديا، يرتبط (إقبال الناس على الأخبار) في الوقت ذاته بتراجع الإعلان وبعدم تنامي الثقة في الصحافة والصحفيين. وعلى هذا النحو، فإن أزمة كورونا في الوقت الذي تُعزِّز فيه إقبال الناس على الميديا فإنها تؤدي أيضًا إلى استفحال أزمتها بل إن هناك شهادات ومعطيات تقدمها بعض مؤسسات الميديا عن أن الوكالات التي تشتري الفضاءات المخصصة للإعلان تمتنع عن وضع الإعلان في البرامج الإخبارية التي تتحدث عن الفيروس.
إن تأثيرات أزمة كورونا متعددة بعضها على المدى القريب ويتعلق على وجه الخصوص بتراجع الإيرادات الإعلانية. لكن هذا التراجع ليس جديدًا فقد جرَّبته الميديا أثناء أزمة عام 2009 التي كانت لها تأثيرات سلبية على كل قطاعات الميديا (التليفزيون والإذاعة والصحافة الورقية والرقمية). لكن الخاسر الأكبر من أزمة عام 2009 كانت الصحافة الورقية، وهي أيضًا الخاسر الأكبر من أزمة كورونا كذلك. هكذا تعجِّل الأزمة من البحث عن مصادر دخل جديدة.
ويبدو واضحًا أن نماذج أعمال جديدة تتشكَّل حول الاتجاهات التالية:
- الاستمرار في استراتيجية الاستثمار في مقاربة المضامين بمقابل بالنسبة للصحافة المكتوبة والرقمية.
- وضع آليات جديدة للدعم العمومي للصحافة المكتوبة والإلكترونية في الولايات المتحدة أو تعزيزها كما هي الحال في فرنسا وبريطانيا.
- تحويل مؤسسات صحفية من مؤسسات خاصة إلى مؤسسات نفع عام على غرار عدة صحف مثل جريدة “لا بريس” في كندا أو موقع الصحافة الاستقصائية “ميديا بارت” (Mediapart).
- اشتراك الجمهور في تمويل الصحافة على غرار المقاربة التي أرستها “الغارديان”، وتعتمد على دعم الجمهور إضافة إلى الاشتراكات؛ إذ أسهم أكثر من مليون شخص في دعم المؤسسة.
وكشفت الأزمة كذلك القدرات التحريرية المحدودة لتطوير الأشكال الصحفية الجديدة على غرار الصحافة التفسيرية وخاصة صحافة التحري أو المضامين الرقمية في إطار ما يسمى التحول الرقمي. فمؤسسات الميديا العمومية تقع في معظمها تحت سيطرة الحكومات والدول ومضامينها الإخبارية غير مبتكرة. أما الميديا الخاصة (تليفزيون وإذاعة وصحافة مطبوعة ورقمية) فمواردها لا تسمح لها بعصرنة بنياتها التكنولوجية أو منصات التوزيع كما لا تتوفر لديها الموارد المالية والبشرية لتطوير منصات إلكترونية ذات كلفة عالية من جهة الموارد الصحفية التكنولوجية.
وعلى هذا النحو، فإن جائحة كورونا كشفت أيضًا عن الطابع النسقي لأزمة مؤسسات الميديا في العالم العربي التي هي بلا شك أكثر حدة عما هي عليه في السياقات الأوروبية والأميركية؛ لأنها لا تتعلق بتحولات البيئة الثقافية والتكنولوجية وضمور مصادر التمويل وتراجع إيرادات الإعلان بل لأنها تتعلق أيضًا بالبيئة السياسية والمؤسسية غير المواتية في أغلب الدول العربية.
ويبدو بالنظر إلى تأثيرات أزمة كورونا الأساسية والمتعلقة بتراجع الإنفاق الإعلاني وبالدروس المستخلصة من التجارب السابقة، أن الصحافة المستقلة وخاصة الورقية والرقمية على السواء التي تعتمد على الإعلان وعلى المبيعات الورقية، هي الأكثر تأثرًا بالركود الاقتصادي، خاصة أن الصحافة الرقمية لا تعتمد على استراتيجية المضمون بمقابل. أما الميديا العمومية (أو بالأحرى الحكومية) التي تموِّلها الدولة وتسيطر عليها الحكومة بشكل مباشر أو غير مباشر في أغلب الحالات فلن تتأثر بالأزمة بشكل مباشر.
هكذا، ستزيد الأزمة من ارتباط الميديا بالسلطة السياسية والخضوع إليها أو الاستسلام إلى المعلنين في كل الأحوال، فأزمة كورونا ستجعل من شروط ظهور صحافة الجودة وتطورها أكثر صعوبة.. فالصحافة ليست ممارسة فردية بل هي صياغة وممارسة جماعية مُمَأْسَسَة تحتاج إلى مؤسسات قوية توفر موارد عديدة للعمل الصحفي. فالصحافة الجيدة ذات تكلفة عالية، كما لا توجد مبادرات في الأفق لما يطلق عليه سياسة عمومية في مجال الميديا تقوم على مساندة الميديا العمومية والخاصة على أداء أدوارها باعتبارها مؤسسة من مؤسسات الديمقراطية. فالاستقلالية ليست شعارًا يُرفَع أو إرادة يعبِّر عنها الصحفيون بل آليات مؤسسية مركبة على غرار نموذج “الغارديان” في بريطانيا و”لو كنار أنشيني” في فرنسا.