بعد أوكرانيا، تصاعد الموقف في كوسوفو، مهددا باندلاع نزاع مسلح جديد في قلب أوروبا التي عليها أخذ الوضع بجدية، وفق معلقين ألمان وأوروبيين. انتقادات واشنطن وتحرك كل من برلين وباريس مؤشرات على رغبة في نزع سريع لفتيل الأزمة.
اضطرت قوات حفظ سلام التابعة لحلف الناتو للتدخل للفصل بين صرب كوسوفو ومسلميها، في مشاهد أججت ذكريات مؤلمة لبلد مُقسم عرقيا وسياسيا يجد صعوبة في معالجة بناءة لجراح تاريخية لم تندمل بعد.
القصة بدأت باحتجاجات عنيفة يوم (الاثنين 29 مايو/ أيار 2023) في بلدة زفيتشان شمال كوسوفو، أدت إلى إصابة ما لا يقل عن خمسين شخصا من المحتجين وثلاثين من قوات الأمن. موقف دفع بحلف شمال الأطلسي لزيادة عديد قواته حيث أرسل 700 جندي إضافي إلى عين المكان لدعم قواته هناك المؤلفة من 4.000 جندي.
وتعود الشرارة الأولى للتصعيد الجديد إلى الانتخابات التي أجريت خلال شهر أبريل / نيسان الماضي التي قاطعها صرب كوسوفو بالكامل مما نسف شرعيتها، حيث لم تتجاوز نسبة المشاركة 3.5%. هذه المقاطعة الواسعة للصرب أسفرت عن مفارقة انتخابية شاذة، منحت الفوز في أربع بلديات ذات غالبية صربية، إلى مرشحين من العرقية الألبانية. نتيجة حولت المنطقة لبرميل بارود قابل لانفجار في كل لحظة.
رؤساء البلديات الجدد، تم تنصيبهم وسط أجواء مشحونة الأسبوع الماضي، في خطوة لم تثر فقط حفيظة صرب كوسوفو، ولكن انتقدتها أيضا الولايات المتحدة وباقي حلفائها الغربيين، بمن فيهم الداعمين لبريشتينا. ورغم أن تلك الانتخابات كانت قانونية في شكلها، إلا أن مقاطعة الصرب أفقدتها مصداقيتها. ومنذ ذلك الحين وصرب كوسوفو يتظاهرون مطالبين بإبعاد رؤساء البلديات من مناطقهم. وبهذا الصدد حمًلت صحيفة “نيبسزافا” المجرية (الأربعاء 31 مايو) وإلى حد كبير مسؤولي ألبان كوسوفو المسؤولية في التصعيد وكتبت “لا الجالية الصربية في شمال كوسوفو ولا الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بإمكانهما تغيير حقيقة خروج الوضع عن مساره، إن رئيس حكومة كوسوفو، ألبين كورتي، يتحمل قدرًا كبيرًا من المسؤولية (..) لقد أفسد كورتي علاقاته مع الغرب مرارًا وتكرارًا: فهو غير مستعد لمنح صرب كوسوفو المزيد من الحقوق”.
شولتس وماكرون في مهمة رجال إطفاء بمولدوفا
أمام خطر انزلاق الأوضاع إلى ما لا تحمد عقباه، بادر كل من المستشار الألماني أولاف شولتس والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى الدعوة إلى تنظيم انتخابات جديدة في البلديات موضوع الخلاف في شمال كوسوفو. وطالب الزعيمان رئيسة كوسوفو فيوزا عثماني بتنظيم اقتراع لنزع فتيل أزمة قد تتطور إلى نزاع مسلح، سيعيد المنطقة إلى المربع الأول. وتم ذلك خلال القمة الأوروبية في مولدوفا (الأول من يونيو/ حزيران). برلين وباريس ضغطتا أيضا على بلغراد بدعوة الرئيس الصربي ألكسندر فوتشيتش بالتأكد من مشاركة صرب كوسوفو في الانتخابات في حال إعادتها. رئيسة كوسوفو وعدت بالتفكير في الموضوع، ما قد يفتح أفقا للخروج من المأزق الحالي.
جهود برلين وباريس أتت بثمارها الأولى حيث أجرى زعيما صربيا وكوسوفو محادثات وجيزة بحضور كل من شولتس وماكرون ومسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل في مولدوفا (الأول من يونيو). عثماني وإن اتهمت الزعيم الصربي بعد الاجتماع معه بأنه “لا يقول الحقيقة”، إلا أنها أشارت إلى أن بلادها بوسعها تنظيم انتخابات جديدة. وبهذا الصدد قال شولتس “من المهم أن يفعل جميع المشتركين كل ما بوسعهم لإنهاء التصعيد”. غير أن موقع القناة الألمانية الأولى “تاغسشاو” (الثاني من يونيو)، نقل عن شولتس إشارته إلى أن “الاتفاقات التي تم التفاوض عليها بالفعل يجب أن يتم تنفيذها من أجل حل دائم للصراع. وقال “لقد تحدثنا عنها بشكل مكثف وجاد للغاية”. “سنرى ما سينجح”. إنها “مسألة خطيرة للغاية”.
الأخذ بزمام المبادرة قبل فوات الأوان
صرب كوسوفو الذين يشكلون، أقلية في عموم البلاد وغالبية في أربع بلدات فقط، وهم لا يعترفون أصلا بسيادة بريشتينا لا يخفون ولاءهم لبلغراد، فيما يشبه جمرا تحت الرماد تتغذى منه الأزمة الحالية، وهذا ما يفسر مقاطعتهم للانتخابات البلدية الأخيرة. كما أن صربيا وبدعم من حلفائها الروس والصينيين، ترفض الاعتراف باستقلال كوسوفو الذي أُعلن عنه في عام 2008 بعد عقد من حرب دامية بين القوات الصربية والمتمردين الألبان الانفصاليين.
واندلعت تلك الحرب بطابع عرقي في إقليم يقطنه 1.8 مليون نسمة غالبتهم من الألبان المسلمين. حرب انتهت بقصف لحلف شمال الأطلسي بقيادة واشنطن. أما الأقلية الصربية في كوسوفو فلا يتجاوز عددها 120 ألف نسمة متمركزة في شمال البلاد. وينص اتفاق يعود لعام 2013 على تكوين اتحاد من عشر بلديات بأغلبية صربية، غير أن بريشتينا تخشى من أن تتحول تلك البلديات إلى “طابور خامس” يخضع بالكامل إلى سلطة بلغراد.
وبهذا الصدد كتبت صحيفة “باديشه تسايتونغ” الألمانية معلقة (31 مايو أيار) “يكشف تصاعد العنف في كوسوفو عن افتقار أوروبا والولايات المتحدة إلى استراتيجية متماسكة في منطقة البلقان، في وقت نرصد فيه نموا مطردا لنفوذ الكرملين بشكل خطير”.
أما “فرانكفورته ألغماينه تسايتونغ” (28 مايو أيار) فدعت أوروبا إلى أخذ الأزمة في كوسوفو بجدية قبل فوات الأوان. “يمثل الوضع في شمال كوسوفو تصعيدا خطيرا يجب على الغرب أن يتعامل معه بجدية. قوات طرفي النزاع في حالة تأهب، طرق مغلقة، معابر حدودية لا تعمل. إن الإقليم لم يشهد مثل هذا التوتر منذ فترة طويلة، على الرغم من عدم الاستقرار الكامن والمستتر الذي يجثم على المنطقة منذ الحرب قبل أكثر من عشرين عامًا”.سارعت موسكو على لسان دميتري بيسكوف المتحدث باسم الكرملين(الأربعاء 31 مايو/ أيار) للتعبير عن موقفها تجاه تطورات الأوضاع في البلقان، مؤكدة دعمها للسكان الصرب في كوسوفو، داعية إلى ضرورة حماية مصالحهم وحقوقهم القانونية. وقال بيسكوف “ندعم صربيا والصرب دعما غير مشروط… ونعتبر أنه يجب مراعاة كافة الحقوق ومصالح صرب كوسوفو”، مضيفا أنه لا يجب إفساح المجال “لأفعال استفزازية”.
ويذكر أن روسيا تجمعها علاقات ثقافية ودينية وثيقة مع الصرب الذين ينتمون أيضا للقومية السلافية. دينيا يتبع الصرب أيضا الكنيسة الأرثوذكسية في روسيا. وألقت موسكو باللوم على كوسوفو والدول الغربية وحملتها مسؤولية تصعيد حدة التوتر في منطقة البلقان.
لكل هذه الاعتبارات، لا يمكن اختزال الخلاف بين الكوسوفيين الصرب والألبان في رئاسة بعض البلديات، وإنما الأمر أعمق من ذلك، فهو تعبير عن صراع مُعلق دون حل بين صربيا وكوسوفو، تلعب فيه شبكات نفوذ القوى الكبرى دورا مهما. فلا يزال الاتحاد الأوروبي والقوى الغربية عموما مترددة في تعاملها مع جمر الصراع في كوسوفو. ثم هناك “روسيا، التي تسعى لتأمين مناطق نفوذها في المنطقة قد يدفعها لتوظيف الاضطرابات في أوروبا” لصالح أجندتها، وفق صحيفة “لايبتسيغر فولكستسايتونغ” الألمانية (30 مايو أيار).
ألبان كوسوفو في دائرة نقد القوى الدولية
لم تتردد واشنطن وحلفاؤها الغربيون في تحميل كوسوفو المسؤولية المباشرة في تأزيم الوضع مع الصرب معتبرين أن استعمال القوة وفرض تنصيب رؤساء البلديات في المناطق ذات الغالبية الصربية في كوسوفو، فتولد إجماع على أن ألبان كوسوفو مسؤولون عن تقويض الجهود الدولية لبناء علاقات، متدهورة أصلا، بين أطراف النزاع في كوسوفو. وزير الخارجية الأميريكة أنتوني بلينكن عبّر عن استيائه تجاه حكومة رئيس الوزراء ألبين كورتي معتبر أنه تسبب في “تصعيد للتوتر بشكل حاد وغير مبرر” بعد إصراره على تعيين رؤساء بلديات الألبان في المناطق الصربية. واشنطن لم تكتف بالنقد اللفظي، وإنما علّقت أيضا مشاركة كوسوفو في تدريبات عسكرية جارية كخطوة للتعبير عن غضبها تجاه سياسة بريشتينا. من جهته، ذهب الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في نفس الاتجاه.
صحيفة “داغينز نيهتر” السويدية (31 مايو أيار) حاولت أخذ العصا من الوسط وكتبت “في اضطرابات كوسوفو هناك محرضون على جانبي خط الصراع. من الصعب الحفاظ على السلام بين أطراف ليس لديها مصلحة في ذلك. وأكدت الصحيفة أن هكذا كان عليه الأمر منذ ربع قرن أي منذ نهاية الحرب اليوغوسلافية”. واستطردت اليومية الصادرة في ستوكهولم قائلة: “المتشددون يخربون أي تقدم حذر. نفوذ وقوة الاتحاد الأوروبي يقومان على رغبة كل من كوسوفو وصربيا في الانضمام إلى الاتحاد القاري، لكن أي منهما لن يسمح له بالدخول طالما أنهما يرفضان تطبيع علاقاتهما بطريقة حضارية. ليس لدى كوسوفو مكان آخر تذهب إليه. وبينما يشعر العديد من الصرب بقرابة سلافية مع الروس، فإن بلغراد لا تجني أي فائدة اقتصادية أو سياسية من التحالف مع موسكو. يجب أن يواصل الاتحاد الأوروبي إصراره. في يوم ما ستنتصر الواقعية حتى بين الخصوم الأبديين”، تقول الصحيفة السويدية.
أصر رئيس وزراء كوسوفو ألبين كورتي على بقاء الشرطة في الأجزاء الشمالية من البلاد رغم الرفض والاحتجاجات التي تلاقيها من قبل السكان الصرب، في تحد واضح لدعوات حليفه الأمريكي بهذا الصدد. وقبلها تجاهل كورتي دعوات حلفائه الغربيين لإلغاء الانتخابات المحلية التي تسببت في اندلاع الأزمة، مما جعله يبدو كمن يسكب الزيت على النار. وبهذا الشأن نقلت وكالة بلومبرغ (31 مايو أيار) عن كورتي قوله، في مؤتمر “غلوبسيك” للأمن الدولي في براتيسلافا عاصمة سلوفاكيا “طالما كانت هناك هذه المجموعة العنيفة بالخارج مستعدة للهجوم… يجب أن يكون لدينا وحداتنا الخاصة في مباني البلدية”. واشنطن دعت أيضا صربيا لسحب قواتها، بعد أن وضعها الرئيس، الكسندر فوتشيتش، في حالة تأهب.
وبالتالي فإن أصابع النقد تتجه أيضا لفوتشيتش الذي تعرض لضغوط داخلية شديدة. فمنذ بداية شهر مايو 2023 والمعارضة الصربية تنظم احتجاجات تحت شعار “صربيا ضد العنف”. في أكبر مظاهرات مناهضة لفوتشيتش منذ وصوله إلى السلطة قبل أكثر من عقد من الزمان. غير أن أنصار الرئيس يرون أن سبب التوتر في كوسوفو يعود لعوامل وفق ما كتبته صحيفة “تاتس” اليسارية الألمانية (30 مايو) “تجمع وسائل الإعلام الصربية (الموالية للحكومة) على مرجعية نظرية مؤامرة عظيمة: أعداء صربيا يُثيرون التوتر بهدف الإطاحة بفوتشيتش، لأنهم يعرفون أنه لن يعترف أبدًا باستقلال كوسوفو (..) “ومن هم أعداء صربيا؟ (تتساءل الصحيفة) “بالطبع كل من ينتقد فوتشيتش”.