في الوقت الذي حقّقت تجارب الصحافة التعاونيّة نجاحات عالميّة، أصبحت معظم المؤسسات الصحفية مهتمة بإنتاج محتوى تعاوني بعدما تأكّدت أهميته من نواحٍ عدّة، أبرزها تقليل الكلفة الانتاجيّة، توسيع رقعة انتشار المواضيع لا سيّما التحقيقات الاستقصائيّة وتأثيرها، الحصول على معلومات عابرة للحدود ومتنوّعة، اكتساب مهارات جديدة في غرف الأخبار، مشاركة البحث في البيانات الضخمة مع مجموعة من الصحفيين، التعرّف إلى تقنيات مختلفة وطرق عمل متنوّعة، تحقيق نتائج أفضل من العمل الفردي، إضافةً إلى منح نوع من الحماية في المواضيع الحساسة.
بداية لا بدّ من التعريف بالصحافة التعاونيّة وهي اتفاق تعاوني بين مؤسستين صحفيتين أو أكثر، بهدف تضافر الجهود وتعزيز وتنظيم الموارد المتوفّرة للوصول لمعلومات أكثر وتحقيق تأثير أكبر، ذلك لأنّ “بعض القصص هي ببساطة أكبر من أن تعالجها وسيلة إعلاميّة واحدة”، وفقًا لباستيان أوبرماير، صحفي استقصائي وأحد مسرّبي وثائق بنما.
كلّ هذا دفع سارة ستُنبلي، مديرة الأبحاث في مركز الإعلام التعاوني في جامعة ولاية مونتكلير، لوصف الصحافة التعاونيّة بـ”الثورة في عالم الصحافة”، فهي تعتبر أنّ “القاسم المشترك بين المشاريع التعاونيّة الناجحة هو وجود مدير مشروع مخصص، يساعد في التحكم في سير العمل اليومي ويلعب دور الوسيط بين مختلف الأطراف المعنية”.
وقد ذكرت دراسة صادرة عام 2017 عن مركز الإعلام التعاوني في جامعة ولاية مونتكلير والتي تتناول نماذج التعاون في الصحافة أنّ وجود “أفراد مكرّسين لإدارة التعاون هو أحد العناصر الأساسيّة لنجاح المشاريع التعاونيّة”.
فالتعاون الصحفي لا يقتصر على التحقيقات والمواضيع المشتركة التي ينتجها التعاون الناجح، بل يحمل بطيّاته الكثير من الجهود خلف الكواليس. فالمشاريع التعاونيّة وتحديدًا العابرة للحدود والقائمة على تسريبات كمشاريع وثائق باندورا وأوبر وبنما وكريدي سويس وغيرها تتطلّب جهودًا استثنائيّة من ناحية التنظيم والتنسيق وتقسيم العمل وتحديد مواعيد النشر للقصص المختلفة وغيرها من التفاصيل، وهذا ليس ممكنًا لولا وجود أشخاص محدّدين في هذه المنظّمات يتولّون هذه المهام.
فمن أجل نجاح التعاون الصحفي، لا بدّ من وجود أشخاص في هذه المؤسسات، مهمتهم الأساسية ضمان استمرار هذا التعاون والتنسيق بين الأطراف المعنيّة، ومن هنا جاء دور الـ Collaboration Manager أو مدير التعاون الصحفي الذي يُعتبر اليوم عنصرًا أساسيًّا في المؤسسات الصحفية المهتمّة بالمشاريع التعاونيّة. ومدير هذه المشاريع التعاونيّة هو/هي الشخص المسؤول (ة) عن تنظيم وتنسيق المشاريع التعاونيّة في المؤسّسة، إلّا أنّ دوره/ا قد يتعدّى ذلك ليشمل أدوارًا أخرى.
دوره/ا:
أ- التنسيق مع الشركاء.
ب- التنسيق مع رئاسة التحرير وإدارة المؤسسة المعنيّة.
ج- التخطيط للمحتوى ولبرنامج النشر.
د- التنسيق داخل المؤسسة الواحدة مع فرق: التحرير والفيديو والتصميم ووسائل التواصل الاجتماعي والترجمة.
ه- متابعة كل التطوّرات حول القصص.
و- العمل الصحفي (البحث والتقصّي والمقابلات…).
س- قد يتضّمن أيضًا مهمّة الحصول على حقوق الردّ.
بناءً على ذلك، يلعب مدير التعاون الصحفي المهام الأساسيّة التالية:
- إدارة المشاريع: بما في ذلك التخطيط للمشروع وتنفيذه وبناء الفريق ومراقبة تقدّم المشروع وتحديد المواعيد النهائية وغيرها.
- مهارات التواصل البنّاء.
- المشاركة في إعداد (لا بل في بعض الأحيان قيادة) المحتوى التحريري: وفي معظم الأحيان يكون مدير التعاون الصحفي أو مدير المشاريع التعاونيّة هو بدوره صحفي يعدّ تحقيقاته الخاصّة في سياق هذه المشاريع.
- بناء الفريق والتأكّد أنّ كل أعضاء الفريق على صفحة واحدة.
- التخطيط الاستراتيجي لما قبل، أثناء وبعد النشر.
- عمليّة التوثيق والحفاظ على كلّ وثائق وخلاصات المشروع.
- عمليّة التسويق للمشروع التعاوني.
- متابعة أثر وتبعات التحقيقات (Impact).
يمكن الاطلاع على هذا الرسم الذي يوضح المهام بشكل دقيق، ومصدره دليل مدير المشروع للصحافة التعاونية الصادر عن مركز الإعلام التعاوني في الولايات المتحدة في تشرين الأول/ أكتوبر 2021.
أنواع مديري التعاون الصحفي:
يختلف دور ومهام مدير التعاون الصحفي اعتمادًا على حجم التعاون وطبيعة العمل والمؤسسة، فمثلًا تعمل مؤسسات الصحافة التعاونية الدولية مثل الاتحاد الدولي للصحفيين الاستقصائيين (ICIJ) ومشروع الإبلاغ عن الجريمة المنظّمة والفساد (OCCRP) في الغالب من خلال التعاون مع المؤسسات الإعلامية في جميع أنحاء العالم. وبالتالي فإنّ مدير التعاون في هذه المؤسسات العابرة للحدود يقوم بالتنسيق مع جميع الشركاء في سياق مشاريع محدّدة ومؤقّتة. وهنا يكون مدير التعاون الصحفي هو الشخص المسؤول عن التنسيق على مسافة متساوية بين جميع الشركاء.
في هذا السياق، ونظرًا لأهمية هذا الدور والمهام الوظيفي، أصدر مركز الإعلام التعاوني في الولايات المتحدة دليل مدير المشروع للصحافة التعاونية، بهدف تسليط الضوء على دور مدير التعاون الصحفي. وذكر هذا الدليل الأدوار الخمسة الرئيسية لمدير التعاون الصحفي، وهي أن:
- يكون طرفًا محايدًا بين المؤسسات المتعاونة في المشاريع.
- يتمتّع بالذكاء في بناء العلاقات والثقة بين الشركاء.
- يكون لديه القدرة على المحافظة على استدامة التعاون (ضمان اجتماعات الشركاء بشكل دوري وسلس، والعمل مع المموّلين لتطوير مشاريع جديدة، ووضع الإستراتيجيات وما إلى ذلك).
- يتمتّع بقدرات تنظيميّة ويكون سفيرًا للتعاون من ناحية الإضاءة على أهميّة العمل والتسويق له.
- يلعب أدوارًا عدّة في آنٍ واحد ويقوم بالكثير من المهام ويكون على معرفة واسعة بكل تفاصيل المشروع التعاوني.
وفي أحيان أخرى، قد يكون مدير التعاون الصحفي موظفًا في مؤسسة معينة يتولى إدارة المشاريع التعاونيّة المختلفة في هذه المؤسسة وإطلاق مشاريع تعاونيّة جديدة. تجدر الإشارة إلى أنّ الاسم الوظيفي لهذه المهمّة قد يختلف من مؤسسة إلى أخرى من بينها: مدير أو منسّق المشاريع التعاونيّة، مدير مشاريع، مدير تعاون صحفي وغيرها.
بناءً على مقال لستيفاني موراي، مديرة مركز الإعلام التعاوني في جامعة ولاية مونتكلير، في 1 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 ، “من خلال الإحصاء التقريبي للمركز، من المحتمل أن يكون هناك ما يقرب من 30 شخصًا في جميع أنحاء الولايات المتحدة لديهم وظائف تتمحور حول إدارة المشاريع التعاونيّة الصحفية، إما بدوام جزئي أو بدوام كامل”.
المهام والصفات التي يجب على مدير التعاون الصحفي التحلّي بها:
- المرونة والديناميكيّة.
- مهارات صحفيّة جيّدة مصحوبة بروح التعاون والعمل داخل الفريق.
- مشاركة المعلومات مع الآخرين.
- مهارات التواصل الجيد خصوصًا وأنّ مدير التعاون الصحفي نقطة وصل بين الشركاء.
- حسّ المسؤولية والثقة والسريّة.
- تنسيق الشراكات مع الشركاء الدوليين والإقليميين والمحليين.
- وضع خطط للتعاون التحريري، لتشمل تطوير ميزانيات المشاريع، وتحديد المشاركين، ومتابعة التمويل ودعم تقارير المشروع.
- الالتزام بالمواعيد وبالإطار الزمني للمشاريع التعاونيّة.
- الالتزام بالدقّة وبأعلى معايير الأخلاقيّات الصحفية.
- الاستعداد الدائم لأي جديد ولأي مساعدة.
- تقييم مدى وصول المشروع وتأثيره وإعداد تقارير تناقش نقاط القوة والضعف في المشروع.
- المتابعة ما بعد النشر والحفاظ على العلاقات الجيّدة مع الشركاء.
وبناءً على ما سبق، فلكل صحفي (ة) يرغب في تعزيز قدراته (ا) لتولّي منصب مشابه يمكنه (ا):
- التسجيل في دورات تدريبيّة في إدارة مشاريع: الكثير من المواقع التعليميّة الرقميّة توفّر مسارات ودورات مفيدة عبر الانترنت في هذا المجال، مثل منصّتي: Coursera وedx وغيرهما.
- تعلّم اللغة الانجليزيّة وهي أساسيّة في التعاون العابر للحدود، ويمكن أيضًا تعلّمها من خلال المنصّات المذكورة سابقًا.
- المعرفة التقنيّة وذلك للتمكّن من التفاعل على المنصّات الرقميّة المختلفة للمشاريع، والوعي بالأمن الرقمي: إذ أنّ الكثير من المشاريع التعاونيّة تحتاج لقدر عالٍ من الأمن الرقمي الذي يضمن سلامة الصحفي نفسه والشركاء جميعًا.
- التحلّي بمهارات التواصل البنّاء والتمتّع بقدرات تنظيمية عالية.
أنواع التعاون الصحفي:
لم يكن هناك حاجة لمدراء للتعاون الصحفي لولا ازدهار ظاهرة الصحافة التعاونية في العقدين الأخيرين.
ذكر تقرير صادر عن مختبر نيمان للصحافة بعنوان “التعاون هو مستقبل الصحافة” في 11 آب/ أغسطس 2020، أنّ السنوات القليلة الماضية شهدت تضخّمًا في عدد وأنواع التعاون الصحفي، فوفقًا لمركز الإعلام التعاوني في جامعة ولاية مونتكلير، نما التعاون في الولايات المتحدة من 44 في عام 2017 إلى أكثر من 300 اليوم”.
لذلك لا بدّ من الإشارة هنا إلى أهميّة الصحافة التعاونيّة، فنحن نحتاجها في:
أ- التحقيقات العابرة للحدود.
ب- القصص/التحقيقات التي تهم وتؤثّر بجماهير واسعة (مثلًا جائحة كوفيد 19).
ج- التحقيقات في عمل شركات متعددة الجنسيات أو أفراد تمتد أعمالهم التجارية خارج حدود البلاد.
د- عندما تكون التحقيقات أكبر من قدرة مؤسسة واحدة.
هناك عنصران أساسيّان في أي تعاون صحفي هما:
1- مدة التعاون.
2- درجة التكامل والتعاون بين المؤسسات الإعلاميّة.
بناءً على العنصرين السابقين، هناك 6 أنواع مختلفة من التعاون الصحفي بحسب دراسة بعنوان: “مقارنة نماذج الصحافة التعاونية” الصادرة عام 2017 عن مركز الإعلام التعاوني في جامعة ولاية مونتكلير:
في سياق هذه “الثورة” في الصحافة التعاونيّة، كان لا بدّ من استحداث منصب وظيفي جديد في لضمان نجاح المشاريع التعاونيّة وتحقيق غاياتها المهنيّة. لا يُخفى على أحد أنّ الصحافة تتميّز بحسّ المنافسة العالية بين الصحفيين، الّا أنّ دور مدير المشاريع التعاونيّة هنا يكون في الاستفادة من روح التنافس بما في خدمة المشروع وضمان خلق جو من “التنافس التعاوني” بين الصحفيين المشاركين في المشروع، لأنّه فقط عندها يتمكّن الصحفيّون من مواجهة شبكات الفساد التي تمتّد من كلّ حدب وصوب، وبحسب الـ OCCRP، “نحتاج لشبكة لمحاربة شبكة”.