شكل عام 2022 واحدا من أسوأ الأعوام على حرية الصحافة وسلامة الصحفيين حول العالم، وذلك بعدما سجل أرقاما قياسية لم ترصدها المؤشرات منذ نحو 30 عاما، وفق تقارير منظمات حقوقية ومهنية في هذا الشأن.
وسجلت انتهاكات بارزة هذا العام، اتخذت طابعا أكثر تطرفا، تمثلت في اغتيال صحفيين، واعتقال أعداد كبيرة منهم، فضلا عن الملاحقة والتهديد والترهيب التي باتت نهجا معتمدا أكثر من حالات متفرقة أو فردية، فيما كانت منطقة الشرق الأوسط، الساحة الأوسع لهذه الممارسات، ولاسيما الدول العربية التي احتلت مراتب متأخرة جداً في المؤشرات المتعلقة بحرية الصحافة.
هذا الواقع المتردي دفع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، للقول إن الصحفيين والعاملين في مجال الإعلام باتوا يواجهون “تسييسا متزايدا لعملهم” وتهديدات، تزداد يوما بعد يوم، تخص حريتهم في أداء وظائفهم بيسر، وذلك في اليوم العالمي لحرية الصحافة.
في حين قالت المديرة العامة لليونسكو، أودري أزولاي، بالمناسبة ذاتها إن أكثر من خمسة أشخاص من أصل ستة في العالم يعيشون في بلد سجّل تراجعا على صعيد حرية الصحافة خلال السنوات الخمس الماضية.
أحدث التقارير بهذا الشأن صدر، في منتصف ديسمبر الحالي، عن “لجنة حماية الصحفيين” (CPJ) وكشف أن عدد الصحفيين السجناء في العالم بلغ أعلى رقم على امتداد السنوات الثلاثين الماضية، ووصل إلى 363 صحفيا، بحلول الأول من ديسمبر عام 2022، مما يمثل رقما قياسيا ويشكل زيادة بنسبة 20 في المئة عن عام 2021.
ونقل التقرير عن رئيسة لجنة حماية الصحفيين، جودي غينزبرغ، قولها إن “العدد القياسي من الصحفيين السجناء يمثل أزمة تعكس تراجع الديمقراطية في العالم. ويوضح إحصاء الصحفيين السجناء لهذا العام أفضل توضيح للمدى الذي تذهب إليه الحكومات لإسكات التغطية الصحفية الرامية إلى إخضاع السلطة للمساءلة”.
وأشارت إلى أن تجريم الصحافة يترك “تأثيرات تتجاوز كثيرا الفرد الذي يُسجن: فهو يخنق التغطية الصحفية الحاسمة الأهمية التي تساعد في المحافظة على الجمهور سالما ومطلعا على ما يدور ومتمتعا بالتمكين”.
وسجّلت الحصيلة السنوية للانتهاكات المرتكبة ضد الصحفيين عبر العالم، التي تنشرها “مراسلون بلا حدود”، رقما قياسيا أكبر، حيث بلغ عدد المحتجزين في أوساط الفاعلين الإعلاميين 533، خلال عام 2022، بينما قُتل 57 صحفيا في مختلف أنحاء العالم على مدى الأشهر الاثني عشر الماضية. كما وثَّقت المنظمة ما لا يقل عن 65 رهينة و49 من الصحفيين في عداد المفقودين.
وكشفت “مراسلون بلا حدود” رقماً قياسياً آخر في حصيلة 2022 يتعلّق باحتجاز الصحفيات على وجه الخصوص، حيث تقبع حاليا 78 صحفية خلف القضبان، وهو ارتفاع بنسبة غير مسبوقة بلغت نحو 30 في المئة خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، علما أن النساء أصبحن يشكلن 15 في المئة من إجمالي الصحفيين المحتجزين، بينما لم تكن هذه النسبة تصل إلى 7 في المئة قبل خمس سنوات.
إيران.. الأسوأ
ويؤكد تقرير لجنة حماية الصحفيين أن من بين الدوافع الرئيسية للجهود القمعية المتزايدة التي تبذلها الحكومات الاستبدادية لخنق الإعلام، هو سعيها لكبح غليان السخط في عالم شهد تعطيلات ناشئة عن جائحة كوفيد-19، والتبعات الاقتصادية للحرب الروسية ضد أوكرانيا.
واحتلت المراتب الخمسة الأولى من حيث عدد الصحفيين السجناء في هذا العام كل من إيران والصين وميانمار وتركيا وبيلاروسيا على التوالي.
وشهد وضع الصحفيين في إيران تدهورا شديدا إثر الانتفاضة الشعبية، التي اندلعت في سبتمبر الماضي، على خلفية مقتل مهسا أميني، لتحتل المرتبة الأولى بعدد الصحفيين المحتجزين في العالم، حيث كان يقبع في سجونها 62 صحفياً، بحلول الأول من ديسمبر الجاري، وفقا للتقرير.
وكانت إيران قد بلغت المرتبة العاشرة عالميا، في عام 2021، مما يعكس قسوة القمع الحكومي للانتفاضة التي تقودها النساء، وهو ما يتضح في اعتقال النظام الإيراني عددا قياسيا من الصحفيات (22 صحفية من مجموع 49 صحفي اعُتقلوا منذ انطلاق التظاهرات) وهو ما وصفته لجنة الحماية الصحفيين بأنه “سعي لكبح التغطية الصحفية الصادقة بشأن التظاهرات”.
انحدار تصنيف إيران على مؤشرات الحريات الاعلامية ينعكس أيضاً في التقرير السنوي لمنظمة “مراسلون بلا حدود”، التي تصدر مؤشرها الخاص لحرية الصحافة حول العالم، واحتلت فيه الجمهورية المرتبة 178\180، حيث تليها دولتان فقط هما إريتريا وكوريا الشمالية.
وفي هذا السياق يرى رئيس مكتب الشرق الأوسط بمنظمة “مراسلون بلا حدود”، جوناثان داغر، أن إيران كانت من أكثر الدول اللافت تقييمها في دول الشرق الأوسط، “فكانت في واجهة الأحداث ومحط الأنظار، بسبب القمع الذي شهدته”.
وأشار إلى أن منظمة “مراسلون بلا حدود” أقامت مركز مساعدة للصحفيين في إيران، “بسبب وجود عدد غير مسبوق من الصحفيين ولاسيما الصحفيات عرضة للتهديد، حيث كانت النساء في واجهة الأحداث الإيرانية، وفيما كانت حرية الصحافة شبه معدومة في السابق بإيران، باتت أسوأ بكثير بعد الانتفاضة”.
تراجع عالمي
ويلفت داغر في حديثه لموقع “الحرة” إلى أن قمع الصحفيين في كل دول الشرق الأوسط والدول العربية “يحصل بشكل بنيوي، ويتجه نحو التزايد، عوضا عن التراجع، محققا أرقاما قياسية، وهذه حالة باتت تحصل على صعيد عالمي وليس فقط في المنطقة، ولكن في الشرق الأوسط الأرقام أكثر ارتفاعا والاعتداءات أكثر تطرفا، حيث عدنا نشهد اغتيالات للصحفيين، وهذا يدل على الاستبداد السائد في هذه الدول، في سبيل قمع الصحفيين ومنع وصول المعلومات”.
وتعرّف منظمة “مراسلون بلا حدود” حرية الصحافة بأنها “الإمكانية الفعالة للصحفيين، بشكل فردي وجماعي، لاختيار وإنتاج ونشر المعلومات التي تصب في المصلحة العامة، وذلك في استقلال عن التدخل السياسي والاقتصادي والقانوني والاجتماعي، ودون أي تهديدات ضد سلامتهم الجسدية والعقلية”.
وتقوم المنهجية المُعتمَدة في تصنيف المنظمة للدول على خمسة مؤشرات جديدة يتمحور حولها الترتيب، بحيث تُصوِّر حرية الصحافة بكل تجلياتها وتعقيداتها في سياقات عدة هي: السياق السياسي، الإطار القانوني، السياق الاقتصادي ثم الاجتماعي والثقافي، والسلامة والأمن.
وأظهر التصنيف العالمي لحرية الصحافة، ما وصفه بـ “الآثار الكارثية لفوضى المعلومات، في عام 2022، حيث أصبح الفضاء الرقمي معولما وغير منظم، إلى درجة بات يشكل معها أرضا خصبة لانتشار المعلومات الكاذبة والدعاية”.
شرح التقرير الذي ركز على ظاهرة الاستقطاب العالمي السائد، لاسيما بعد الحرب الروسية على أوكرانيا، أن الديمقراطية تشهد تراجعا ملحوظا على الصعيد الدولي.
وأكد أنه “في ظل عدم التناسق بين المجتمعات المنفتحة من جهة، والأنظمة الاستبدادية التي تتحكم في وسائل الإعلام ومنصاتها بينما تشن حروبا دعائية، من جهة أخرى. وعلى كلا المستويين، يعُتبر هذا الاستقطاب المزدوج عاملا من عوامل إذكاء التوترات والنعرات”.
واعتبرت “مراسلون بلا حدود” أن غزو روسيا، المصنفة في المرتبة 155\180، لأوكرانيا المصنفة 106\180، مثالا صارخا على هذه الظاهرة، حيث تم تمهيد الطريق له بشن حرب دعائية.
كما اعتبر التقرير أن الصين (المرتبة 175) من بين الأنظمة الاستبدادية الأكثر قمعا، حيث استخدمت ترسانتها التشريعية لفرض حجر على مواطنيها وعزلهم عن بقية العالم، وخاصة في هونغ كونغ (148)، التي تتراجع بشكل مهول في التصنيف.
وفي هذا المناخ، يرى التقرير أنه “يتعزز منطق المواجهة بين “المعسكرات”، كما هو الحال بين الهند (150) وجارتها باكستان (157). فيما لا تزال منطقة الشرق الأوسط ترزح تحت مناخ انعدام حرية الصحافة، الذي يخيم على الصراع بين إسرائيل (86) وفلسطين (170) والدول العربية.
ويرى داغر في هذا السياق أن أكثر ما يضر اليوم عالميا بحرية الصحافة، هو البروباغندا، كالتي تمارسها روسيا والتضليل الإعلامي الكبير والموجه في الحرب الجارية على أوكرانيا، ويضيف “كنا قد شهدنا على هذا الأمر منذ بدء الصراع في سوريا، حيث جرى بث حجم كبير من البروباغندا والمعلومات المضللة، وهو ما يعاد اليوم مع روسيا، ومن أبرز أهدافنا في ‘مراسلون بلا حدود’ هو محاربة البروباغندا وأدواتها وقنواتها، في سبيل تعزيز حرية الصحافة”.
الشرق الأوسط: الأكثر انتهاكا
وبينما تصدرت الدول الاسكندينافية المراتب الأولى عالميا فيما يتعلق باحترام وتوفير حرية الصحافة، جاءت معظم دول الشرق الأوسط، في ذيل الترتيب، لاسيما الدول العربية التي تلت إيران وكوريا الشمالية وإريتريا.
في هذا السياق يشير المتحدث الإعلامي باسم منظمة “سكايز – عيون سمير قصير”، جاد شحرور، إلى وجود قاعدة في الشرق الأوسط تربط بين الاستقرار الأمني للبلاد بموضوع الحريات الصحفية وحرية التعبير.
ويضيف “كل الأنظمة القمعية تضع هذه المعادلة، على قاعدة الإيحاء بأنها ليست أنظمة قمعية بل تدعم الحريات، ولكن هناك مواضيع معينة لا تريد التداول بها، فتحجبها بحجة إثارة نزاعات طائفية أو ضجة أمنية أو عدم استقرار معين”.
وقال: “كل ذلك تستخدمه الأنظمة القمعية من أجل فرض معادلة الاستقرار مقابل الحريات، فيما عملنا يقوم على تفكيك هذه المعادلة، والقول بالعكس إنه حين تكون هناك حريات ينعكس ذلك استقرارا، حيث تكون المعلومة في أيدي المواطنين، وحينها تصبح هناك محاسبة للمنظومة الحاكمة، وبالتالي تتوافر معايير الديمقراطية وهي مقدمة للتطوير والتنمية والتقييم”.
يستنتج شحرور أن التراجع المسجل هذا العام في مؤشر حرية الصحافة هو “تراجع عملي في مؤشر الديمقراطية”، معتبرا أن التراجع السريع للدول على مؤشر الحريات يشير إلى أن المنظومة الحاكمة في هذه الدول ما زالت تسير بالذهنية ذاتها.
ويوضح “لا انتقال ديمقراطي في الحكم، ولا فهم لدور الإعلام كصناعة وليس أداة سياسية فقط، فيما ينظرون إلى الإعلام بنظرتين فقط، فإما إعلام ممول من سياسيين، وبالتالي ينقل صورتهم ويعبر عنهم، أو أنه إعلام رسمي للأنظمة والدول يقدم لغة بيضاء بعيدة عن الموضوعية والحيادية والمعلومات الحقيقية، إنما فقط تلميع للنظام الحاكم”.
ويشدد شحرور على أن النظام السياسي القائم “يمثل واحدا من أبرز التحديات التي تواجه الإعلام، فإما ان يكون ممولا وراعيا له، أو يخضعه لسلطته بقوانين رجعية، وهذا التوجه لا يختلف بين الشعوب والحضارات واللغات، كل الأنظمة في العالم تضع معادلة الاستقرار مقابل حرية التعبير وحرية الإعلام”.
هذه العلاقة بين حرية الصحافة والأزمات يعود، بحسب داغر، إلى كون الصحفيين دائما في الخطوط الأمامية خلال الصراعات والأزمات، “هم يغطونها ويوثقون ما يجري خلالها وينقلون المعلومة للناس، وعدا عن الضرر غير المباشر والمقصود الذي يلحق بهم خلال تأدية عملهم، يعانون من استهداف مقصود ومباشر بهدف إسكاتهم، من خلال قتلهم أو اعتقالهم أو تهديدهم، وغير ذلك الكثير من الأساليب المستخدمة في الاستهداف الممنهج للصحفيين”.
أبرز الانتهاكات في الدول العربية
شكل مقتل مراسلة قناة الجزيرة، الصحفية الفلسطينية الأميركية، شيرين أبو عاقلة، خلال تغطيتها لاقتحام الجيش الاسرائيلي لمخيم جنين الفلسطيني، في شهر مايو الماضي، واحدا من أبرز الشواهد لهذا العام على المخاطر التي تتهدد الصحفيين خلال تأديتهم لعملهم.
لكن هذا الانتهاك لم يكن الوحيد الذي يسجل على الأراضي الفلسطينية هذا العام حيث رصدت مؤسسة “سكايز” أكثر من 250 انتهاكا أغلبها اعتداءات مباشرة على الصحفيين.